الأبراج الفلكية.. ما بين الدجل والواقعية
منذ صغري، انجذبت لعالم الأبراج، ورافقني هذا الاهتمام وسط آراء متضاربة تتراوح بين التصديق والإنكار، وصولًا إلى اعتبارها محرمة دينياً تشبه زيارة العرافين. هذا التساؤل عن حقيقة الأبراج، وهل هي عرافة أم علم، يقودنا لاستكشاف جذورها التاريخية واستخدامات العرب القدماء لها قبل الإسلام في مجالات الزراعة والسفر والتنبؤ بأحوال الفلك.
ما الفرق بين الأبراج وعلم التنجيم
لفهم طبيعة الأبراج، من المهم التمييز بين علم الأبراج وعلم التنجيم. التنجيم هو علم يدعي تأثير مواقع وحركات الأجرام السماوية على مصائر البشر، معتمداً على خرائط فلكية تُعرف بالأبراج للتنبؤ وتقديم النصائح. أما علم الأبراج فهو فرع من التنجيم يركز على تأثير مواقع النجوم والكواكب على شخصية الإنسان وسلوكه بناءً على تاريخ الميلاد وموقع الشمس عند الولادة. ويختلف كلاهما عن علم الفلك الذي يدرس الأجرام السماوية والظواهر الكونية بالاعتماد على الملاحظة والتحليل العلمي.
تعود جذور فكرة الأبراج الفلكية إلى الحضارات القديمة في بابل ومصر القديمة، حيث تمت مراقبة النجوم والكواكب للتنبؤ وفهم الشخصيات. في بابل، حوالي 2000 قبل الميلاد، وُضع نظام يقسم السماء إلى 12 برجاً. وفي مصر القديمة، كانت الأبراج جزءاً من نظام فلكي معقد يستخدمه الكهنة للتنبؤ بمصير الفراعنة.
انتقلت الأبراج إلى الحضارة اليونانية، حيث تبناها الإغريق وأضافوا إليها أساطيرهم. الفيلسوف بطليموس في القرن الثاني الميلادي وضع كتابه “تيترا بيبلوس”، الذي ظل مرجعاً أساسياً لعلم التنجيم لقرون. ثم انتشر هذا العلم في الإمبراطورية الرومانية.
في الحضارة الصينية القديمة، ارتبط ميلاد كل طفل ببرج، واستخدم التنجيم في مختلف مراحل الحياة الهامة.
في الحضارة البابلية، اختلطت العلامات النجمية بالتكهنات، مما أدى إلى ظهور فرع يُعرف بعلم التنجيم الطبيعي. بدأ تدوين نصوص مثل “إينوما أنو إنليل” المخصصة للنجوم السماوية، والتي صنفت النذر إلى أربع فئات مرتبطة بالآلهة سين (القمر)، وشمش (الشمس)، وأدد (إله الطقس)، وعشتار (الزهرة).
تطورت النذر النجمية في الشرق الأوسط القديم، ولكن شعبيتها تراجعت في الفترة الفارسية. لاحقاً، بُذلت جهود لربط الظواهر السماوية بالأحداث الأرضية. انتقلت أجزاء من هذه النذر إلى مصر واليونان والهند.
في مصر واليونان والهند والصين، تم تكييف النذر النجمية. في اليونان، دمج بطليموس محتويات “إينوما أنو إنليل” في كتابه “التترا بيبلوس”. وانتقلت المعرفة عبر المجوسيين في آسيا الصغرى. وفي الهند، ظهرت نصوص مثل “غارغاسامهيتا” التي عدلت المفاهيم الميسوبوتامية لتناسب المجتمع الهندي.
شهد الفلك في العصر الهلنستي تطوراً في استخدام النذر الكوكبية للتنبؤ بمصير الأفراد. ظهر مفهوم تقسيم الدائرة الكسوفية إلى 12 برجاً، مع تحديد مساكن الكواكب وتأثيراتها المختلفة.
أما بالنسبة لتطور علم الفلك والأبراج عند العرب القدماء، فقد امتزج التنجيم بعلم الفلك في بداياته. نشأ في بلاد ما بين النهرين وانتشر، ليأخذ شكله “الغربي” عبر الحضارة اليونانية. ثم دخل الثقافة العربية وتطور في الحضارة الإسلامية، مستفيداً من التقاليد اليونانية والهندية. استُخدم التنجيم للتنبؤ بالأحداث الهامة، وبرز علماء عرب مثل البتاني والفرغاني وابن الهيثم الذين طوروا هذا العلم. ظهرت مؤلفات هامة مثل “الملوك والمسالك” و”البروج الاثني عشر” وكتاب “الزيج” للخوارزمي.
من أبرز الفلكيين والمنجمين في التاريخ القديم كان البيروني، العالم الفارسي الذي برع في الرياضيات والفلك والجغرافيا والتاريخ. وشخصية فاوست الأسطورية في الفلكلور الألماني، الذي ارتبط بالسحر والتنجيم.
علاقة علم التنجيم بالدين
يرى المنجمون أن الأجرام السماوية تشير إلى تغييرات في العالم الأرضي، مستندين إلى فلسفات هلنستية قديمة. وقد تعرضت هذه النظريات لانتقادات من المسيحية والإسلام. بينما يرى بعض العلماء أن الأبراج تعبر عن اتجاهات قابلة للتغيير. هناك من ربط النجوم بالبشائر والإنذارات الإلهية، معتبراً أن المتنبئين يمكنهم تفسير هذه العلامات واقتراح طرق لتجنب المصائب أو تحقيق الخير.
كان الغرض الأصلي من علم التنجيم إعلام الفرد بمسار حياته بناءً على مواقع الكواكب والأبراج عند الميلاد، مما أدى إلى ظهور علم الأنساب الفلكي. وتطور إلى فروع أخرى مثل علم التنجيم العام والكوكبي والاستفهامي.
أما عن سؤال هل هو دجل أم واقع؟، فتشير الأسس العلمية إلى غياب الدليل العلمي على تأثير الأبراج وتناقضها مع العلم الحديث. من الناحية الأخلاقية والاجتماعية، يُنظر إلى التنجيم أحياناً على أنه احتيال وتلاعب بالعواطف.
تاريخياً، ارتبط بالسحر والشعوذة، وتعرض لانتقادات من العلماء والفلاسفة. دينياً.
علم النجوم في القرآن
ومع ذلك، توجد آيات في القرآن تتحدث عن أهمية النجوم ودورها في الكون، مثل الإهتداء بها في الظلمات وتزيين السماء، ولكنها لا تؤكد مشروعية أو عدم مشروعية استخدامها في تحليل الشخصيات وتوقع مسارات الحياة. فالبروج هي منازل الشمس والقمر، وقد أقسم الله بمواقع النجوم. يرى البعض أن تأثير الأبراج على الطقس والنبات والحيوان قد يمتد ليشمل شخصية الإنسان، ولكن يبقى هذا الأمر في علم الله.
في الحضارة الإسلامية، كان لعلم الفلك مكانة مرموقة، وقد استعان به المسلمون في العديد من جوانب حياتهم، مثل تحديد أوقات الصلاة، واتجاه القبلة، والتقويم الهجري، والاستدلال بالنجوم في السفر والتجارة والزراعة. وقد برز علماء فلك مسلمون أسهموا بشكل كبير في تطوير هذا العلم.
ومع ذلك، كان هناك تمييز واضح في الفكر الإسلامي بين علم الفلك وبين التنجيم الذي يدعي معرفة الغيب والتأثير على المصائر. الإسلام يحرم بشدة التنجيم بهذا المعنى، لأنه يتعارض مع العقيدة الإسلامية التي تؤكد أن علم الغيب خاص بالله وحده.
كما حذر القرآن الكريم والسنة النبوية من “العرافة” والكهانة، وهي ادعاء معرفة الأمور الغائبة באמצעות طرق غير شرعية كالسحر والشعوذة والاستعانة بالشياطين. العراف يُنظر إليه على أنه شخص دجال يسعى للتضليل.
في المقابل، فإن “المنجم” في السياق الإسلامي التاريخي قد يشير إلى شخص يدرس حركات النجوم والكواكب، ولكن مع التأكيد على أن هذه الحركات ليست بذاتها مؤثرة في جلب النفع أو الضر، بل هي علامات وسنن كونية خلقها الله. الاستفادة من هذا العلم في الأمور الدنيوية المباحة كان مقبولاً طالما لم يتجاوز حدود العلم إلى ادعاء علم الغيب.
هكذا، ميزت الحضارة الإسلامية بوضوح بين علم الفلك النافع وبين التنجيم المحرم والعرافة المذمومة، مع التأكيد على أن القدرة المطلقة والعلم بالغيب لله وحده.
تأثير الأبراج على الشخصيات
هو اعتقاد شائع بين مؤيدي التنجيم، حيث يُربط كل برج بصفات معينة بناءً على موقع الشمس والكواكب وقت الولادة. وتُقدم قوائم بصفات كل برج على هذا الأساس.
الأبراج في العصر الحديث
لا يزال الاهتمام بالأبراج الفلكية منتشراً على نطاق واسع في الثقافة الشعبية ووسائل الإعلام، رغم الانتقادات العلمية والدينية المستمرة. يُنظر إليها في الغالب على أنها نوع من الترفيه أو وسيلة للتسلية، بينما يظل الاعتقاد بتأثيرها الحقيقي أمراً شخصياً يختلف من فرد لآخر.
